الثلاثاء، 3 أبريل 2012

الخرطوم وجوبا .. ماذا فى الأفق .. ؟؟

.. لأيكاد أحد يصدق ما فعلته اتفاقية نيفاشا بالوضع السياسى والعسكرى و الأمنى بالبلاد .. انفصل الجنوب واصبح دولة ذات سيادة لها حكومتها ورئيسها ووزرائها وجيشها كما ولها مواردها واقتصادها المستقل وهاهو الشمال يلملم جراحاته ويتكوم على نفسه محاولاً الفكاك من أزماته وضائقته الاقتصادية التى خلفها ذهاب ثلثى عائدات النفط الى الدولة الوليدة وقد بدت بوادر أزمات معيشية كبيرة تطرق حياة الناس وتؤرق منامهم الا أن الأمر وللعجب الذى جاءت به اتفاقية السلام الشامل – نيقاشا – لم ينته بنهاية هذا الفصل بين الشمال والجنوب ولا يستطيع أحد الآن أن يجد مبرراً كافياً لاقناعه بوجود فرقتين عسكريتين من دولة جنوب السودان فى داخل أراضى دولة الشمال احداها وهى الفرقة التاسعة فى جيش دولة الجنوب تتحرك فى النيل الأزرق والثانية وهى الفرقة التى تحمل الرقم عشرة فى جبش الجنوب تتحرك لازالت والى هذه اللحظة فى منطقة جنوب كردفان وتناور وتتقدم تجاه مدن تلودى وام دوال وتتمركز بعضاً منها مع تشكيلات جنوبية أخرى بالقرب من مدينة هجليج النفطية التى دارت حولها وعلى تخومها الأسبوع الماضى معارك طاحنة انتهت بسيطرة كاملة للجيش الشمالى بعد أن بثت الفضائيات الاخبارية العربية والعالمية مقتطفات من خطاب ملتهب لرئيس دولة جنوب السودان سيلفاكيير ميارديت قال فيه وبالحرف الواحد ( .. هم شالوها بالقوة ونحن رجعناها بالقوة ) .. !!! ..

.. ماالذى يحدث .. هل هذه هى مآلات اتفاقية نيفاشا ومصيرنا معها .. هل يعقل أن تنتهى نيفاشا بانفصال الجنوب وتوقف الحرب التى استمرت سنوات طويلة وصفت بأنها أطول سنوات حرب داخل القارة الافريقية ثم نفاجأ هكذا مرة واحدة باشتعال الحرب فى مناطق ما كانت تراود الأحلام يوماً القيادات الجنوبية العسكرية والسياسية المتمردة آنذاك للاقتراب منها فضلاً عن تشكيل تهديد عسكرى ولو ضئيل بالقرب منها .. هل يصدق أحد بأن مسارح العمليات التى باتت تلتهب الآن بين فينة وأخرى لا يبعد بعضها عن الخرطوم العاصمة سوى عدة ساعات قد لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة .. ؟؟ !! .. من يصدق هذا .. ؟؟ !! .. ولكنها نيفاشا التى وصفها زعيم حزب الأمة الأمام الصادق المهدى بأنها أشبه ( بالجبنة الجيدة ) والجبنة الجيدة هى تلك المليئة بفراغات أشبه ما تكون بالثقوب المتناثرة على صفحتيها الأمامية والخلفية .. هكذا وصفها الصادق المهدى وهو رجل مولع بمقابلة الأشياء بما يراه يماثلها فى الوضع أو الشكل أو حتى الموضوع وكثيراً ما وجدت تشبيهاته هذه امتعاض من تمسهم الا أن جلها وفيما يبدو كان محكماً فى الوصف والمقابلة نتيجة لعناية المهدى بلفظه وعبارته .. كالجبنة الجيدة .. وصف فى محله فما أكثر الثقوب فى هذه الاتفاقية والتى بات يسميها مهندسوها الآن ومعهم المرافبون والاعلاميون بالقضايا العالقة التى تمثلها الحدود والنفط والقضايا المتعلقة بمنطقتى النيل الأزرق وجنوب كردفان .. ولكن الغريب الذى لأ بد هنا من الوقوف عليه يشىء من التروى والتدارس هو هذا النشاط العسكرى الذى اندفعت وراءه الآن دولة الجنوب عبر محاولتها السيطرة على منطقة هجليج وتهديد منطقتى تلودى وأم دوال فى الظرف الخانق الذى تعيشه وهى الدولة الوليدة التى تعانى ما تعانى الآن من ضعف بنيوى كبير وتهديدات أمنية محدقة ووضع اجتماعى – اثنى – هش يحتاج بكل تأكيد لابعاده عن شبح التصادم والاقتتال مع وجود مجموعات جنوبية داخلية متمردة ضد حكومة الحركة الشعبية التى سيطرت على كامل الوضع السياسى والعسكرى والأمنى فى الدولة وأقصت كافة المجموعات السياسية والقبيلية ذات الوزن والثقل التاريخى والمعاصر فى حياة المجتمع والشعب الجنوبى .. لماذا جنحت هكذا الحركة الشعبية وأدخلت نفسها ومن جديد فى ساحة الصدام العسكرى الميدانى الذى يوشك أن يتحول وفى أية لحظة الى حرب شاملة يمكن أن تكون كافة أجزاء الدولة الجنوبية جزءاً منه ومسرحاً من مسارحها بما فى ذلك المدن الكبرى كجوبا وملكال وغيرها وقد لأ تستثنى حرب شاملة حتى مواقع النفط الكبرى بعد أن أتهمت حكومة سيلفاكيير الشمال بضرب حقول النفط فى ولاية الوحدة .. ؟؟ .. لماذا اختار سيلفاكير وحكومته هذا الطريق الصعب والقاسى على شعبه ووبلده الذى يستشرف بداية نهوضه من المخاض العسير الذى خرج به وانضم بفضله رقماً جديداً الى دول القارة الافريقية بأقدارها التاريخية البائسة .. ؟؟ !! .. وهنالك بالطبع معطيات قد تعطى قراءات مفسرة لما حدث الا أن جميعها لا يرقى الى حد الخروج بمبررات موضوعية خاصة بعد أن استبشر الجميع بواقع تفاهمى جديد بين الدولتين أثر الزيارة الكبيرة لوزراء حكومة جوبا بقيادة المتنفذ – وزير شئون السلام فى حكومة سيلفاكير – باقان أموم و التى شهدتها الخرطوم قبيل التحرك العسكرى المفاجىء للجيش الجنوبى على جبهة هجليج بل أن الحديث عن زيارة البشير التى أعلنت لجوبا وكان مقرراً حدوثها فى الثالث من أبريل الجارى أعطى البعض الضوء الأخضر لينطلقوا فى مساحة واسعة من التفاؤل الذى تصوروا معه وضعية تفاهمية مستقرة وناضجة بين الدولتين الجارتين وقد ألمح هؤلاء وبجرأة الى وجود اتفاقاً ما وتفاهماً ما قد تم التوصل اليه بين مهندسو نيفاشا من الطرفين فعندما شن بعضهم هجوماً كاسحاً فى الخرطوم على مبدأ الاتفاق على وثيقة الحريات الأربعة وعلى من جاؤوا بها وهم المفاوضون ( التاريخيون فى نيفاشا ) انبرى هؤلاء المتفائلون ليقدموا قراءة مدافعة لما تم التوصل اليه ملمحين الى تلك البنود السرية الموقعة تحت المنضدة بين الطرفين لتأسيس علاقة مستفرة ودائمة .. ولكن جاء هجوم هجايج وأعقبته تلك التصريحات المفاجئة والحادة لسلفاكير بما أطاح بأحلام هؤلاء الذين أكدت الساحة العسكرية أنهم قد انتابتهم أحلام يقظة وردية اللون ما لبثت أحداث هجليج والآن تلودى أن صبغتها لهم باللون الأحمر القانى .. وتبقى الأسئلة معلقة .. لماذا اختار سيلفاكيير هذا الطريق .. هل ظن الرجل ومساعدوه أن انجاز عمل عسكرى على الواقع كالسيطرة على حقول هجليج سيوجد واقع ميدانى عسكرى جديد يؤسس لموقف تفاوضى جديد بين دولة شمال السودان ودولته بحيث يجلس الرئيس عمر البشير بجانبه ذليلاً خلال قمة ( الثالث من أبريل ) رامياً فى سلة المهملات أمامه صورة هجليج وهى تحت احتلال جيش دولة الجنوب .. وهذا المنطق ان كان هو ما أسس وفصل فى قرار الهجوم على المدينة فهو بالتأكيد قرار فيه الكثير من التجاهل للتاريخ المزاجى بين الطرفين كما أن فيه اغفال للخلفية العسكرية للقيادات الحاكمة فى الخرطوم فهذه القيادات لأ تنفصم عن روح وعقيدة المؤسسة التى تنتمى اليها وأول ما يتبادر من تصرف فى عقل من كان جزءً من هذا الفضاء عند حدوث اعتداء على ما بين يديه هو أن يفكر فى كيفية رد الاعتداء فى المرحلة الأولى ثم الاندفاع الى الأمام لرد وكما هى مفردة المؤسسة العسكرية ( الصاع صاعين ) ثم العمل على ما يمكن أن يمثل مانعاً مستقبلياً من تكرار ما تم .. واذا افترضنا أن كل هذا يعلمه سيلفاكيير وأركان حربه والأمر هكذا بالفعل فلم أقبلوا عليه وهم على يقين من القدرات العسكرية البرية والجوية على وجه خاص للجيش الشمالى بما يجعل قطع خطوط الامداد من الخلف على القوات المتقدمة أمراً يسيراً لأ يعوقه عائق سوى بعض الترتيبات اللوجستية المعلوماتية لتحديد زمان الضربة وساعة صفرها .. اذاً ما الهدف من شن هجوم قدره الفشل الأكيد فى وقت كانت تباشير الاتفاق على مرحلة جديدة تلوح فى الأفق ويحملها بين يديه دينق ألور وباقان أموم .. أم أن جهد هؤلاء وزيارتهم للخرطوم وابتساماتهم الواسعة الصاخبة كانت هى نفسها جزءً من التمويه لضرب هجليج .. الغريب فى الأمر أن وزير اعلام دولة الجنوب خرج وبعد لحظات من تصريحات سلفاكيير الجريئة تلك ليقول بأن على البشير الاستجابة لدعوة الرئيس سلفاكيير لزيارة جوبا اعتباراً لكونها دعوة من أخ لأخيه وهو أمر كما قال تعارفت عليه الديانات السماوية والأعراف الانسانية .. !!! .. وقد بدأ الرجل متهكماً بما يعزز فكرة من قطع برغبة الحركة فى فرض واقع تفاوضى جديد على الحكومة قبيل قمة جوبا التى لم تتم وهو ذات المنطق الذى يمكن لهؤلاء تقديمه عند قراءتهم الآن لهدف قوات دولة الجنوب من الاعتداء على تلودى تزامناً مع الاجتماعات المعدة مسبقاً بين الجانبين بأديس أبابا .. وهنالك من يعتقد بأن الأزمة الآن مع دولة الجنوب هى أزمة نظام داخلى فى الدولة الجنوبية نفسها حيث لأ توجد دولة حقيقية على الأرض وفق ما هو متعارف عليه بل أن هنالك تيارات متصارعة بأفكارها وآرائها وهو ما ينعكس على اضطراب الفعل والتصرف بين دعاة للسلام داخل الحركة الشعبية يؤمنون بالاستقرار والأمن وبناء علاقة طيبة مع الشمال وبين آخرين من الحركة الشعبية نفسها لديهم علاقات صلبة مع القوى ذات المواقف الميدانية المناوئة بالنيل الأزرق وجنوب كردفان ..

.. ولكن وبالرغم من ما يمكن أن يشكله ويخرج به كل قارىء لمسار الأحداث التى حدثت وما يمكن أن تتطور اليه خلال الفترة القصيرة المقبلة بين دولتى شمال السودان وجنوبه الا أن قراءة الجميع لن تنفك عن حقيقة محورية مرهقة تمثل أهم معطى محورى مفسر لموقف المجموعة الأكثر قدرة ونفاذاً على اتخاذ القرار بدولة الجنوب سواءً على المستوى السياسى أوالعسكرى وهى المجموعة التى يقودها قائد الحركة الشعبية نفسه الرئيس سيلفاكير ميارديت .. هنالك لاعبون من الخارج يرسمون ويخططون ويقررون ما تفعله الحركة الشعبية المسيطرة على حكومة دولة الجنوب .. هذه حقيقة لا مناص منها مهما ادعى العارفون ببواطن الأمور ومهما تكابر المتكابرون على معطيات الحقائق الساطعة .. فقط يبقى السؤال .. كيف يجب أن يضع الشمال حساباته خلال المرحلة المقبلة وقد أيقن بأن تلك الايادى الخارجية لأ تنوى وعبر دولة الجنوب قفل ملف نيفاشا حتى تحقيق أهدافها التى تريدها .. اذاً فليبقى ملف النيل الأزرق مفتوحاً وليبقى ملف جنوب كردفان مفتوحاً ولتبقى القضايا المعلقة معلقة الى الأبد .. هذا هو المنطق الذى بدأت الخرطوم الآن تهضمه وتتعامل بمقتضاه .. ولأ أحد بات يدرك الآن وفق هذا ما تخبئه الأقدار وما يخفيه الأفق البعيد .. فقط فليرفع الجميع الأكف لله تعالى ليحمى شعب الدولتين من العودة لمربع الحرب بكل بأسها وقسوتها ..


ليست هناك تعليقات: