الثلاثاء، 12 يوليو 2011

# مرحباً بجمهورية جنوب السودان .. !!

.. أخيراً وصل قطار نيفاشا الى محطته الأخيرة معلناً عن مولد جمهورية جنوب السودان لتحتل الرقم 54 ضمن دول العالم فى يوم شاء الله أن يكون محضوراً على نحو لم يتحقق عند مولد أو نشوء أية دولة فى العالم الحديث . !! .. فبالاضافة الى حضور عدد كبير من القادة والرؤساء الأفارقة وقيادات وممثلى المنطقة الآسيوية ازدحمت ساحة الاحتفال بمدينة جوبا بكافة ممثلى الكتل السياسية الدولية على رأسها الأمم المتحدة ممثلة فى أمينها العام بان كى مون وممثلى الاتحاد الأوروبى والأفريقى والجامعة العربية بجانب ممثلى الدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا والصين وغيرها من الدول الأوروبية والآسيوية .. حرص الجميع على الحضور بمثل ما حرصوا على الحديث والتبارى فى تقديم التبريكات والتهانىء .. والجميع أيضاً خارج جوبا كان حاضراً بفضل البث المباشر بواسطة كافة الوسائط الناقلة بالأقمار الاصطناعية الى جميع أنحاء الدنيا عبر القنوات الفضائية والاذاعات الدولية وهو أيضاً شىء انفرد به هذا الحدث عن أى حدث مماثل له حيث توفرت التقنية الاعلامية الحديثة بتطوراتها المذهلة الخادمة لعنصر الفورية فكان أن شاهد العالم من أقصاه الى أقصاه صبيحة السبت الماضى رفع علم الدولة الوليدة واعلان قيامها فى لحظة واحدة مثلت بالفعل حدث اعلامى سياسى فريد ..
.. المشهد كان مهيباً بحق وتفاصيل الحدث كانت مثيرة منذ لحظة طى العلم السودانى بألوانه المعروفة ورفع علم الدولة الجديدة .. حالة من الهستيريا أصابت جزءاً من الجمهور الجنوبى فدخل بعضهم فى صراخ وهياج بينما انخرط آخرون منهم فى حالة بكاء حار متحلقين حول تمثال زعيمهم الراحل الدكتور جون قرنق مؤسس الحركة الشعبية لتحرير السودان .. هذه اللحظة لوحدها عكست للجميع حجم ما انطوى عليه الوجدان الجنوبى من دفقة عاطفية كبيرة أفلحت القيادة الجنوبية فى شحن النفوس والقلوب الجنوبية بها خلال السنوات الست الماضية التى مثلت عمر الفترة الانتقالية منذ توقيع اتفااقية نيفاشا فى العام 2005م تلك الفترة التى مضت على نحو خاطف لأ يكاد يصدقه أحد وهى الفترة التى اعتزم الطرفان أو أعلنا ذلك ظاهراً خضوعاً لبنود الاتفاقية التى نصت على المضى بخيار الوحدة الجاذبة مع ترك الخياريين أمام الشعب الجنوبى ليقرر وحده مصير الوحدة أو الانفصال فى الاستفتاء الذى تم خلال الفترة الماضية وخرج بنتيجة حاسمة لصالح الانفصال بما أوجز الحكاية فى كلمة واحدة حضر العالم جميعه السبت الماضى الاحتفاء بها .. الانفصال .. ويا لها من كلمة سقطت معها كل مقدسات الفعل السياسى السودانى منذ نشوء الدولة السودانية الحديثة .. لم يعد هنلك مع فقه نيفاشا حكم أو موقف سياسى مقدس .. بات الأمر تحكمه تطورات الموقف بتداعياتها الدولية والاقليمية والداخلية كما وأصيح الاحتكام لموضوعية الأشياء والواقع أقوى من تلك العناصر التى شكلت تلك المقدسات للموقف السياسى السودانى .. نيفاشا مثلت بذلك انقلاباً حقيقياً فى النهج السياسى لدولة السودان بما أقصى مسلمات الأمر ورهنها لموضوعيات الظرف الراهن بمستوياته المختلفة .. وربما اختلف الجميع حول ذلك بين مؤيد ومعارض الا أن واقع الحرب وتطوراتها وخسائرها البشرية والمادية الفادحة بمثل ما شهدت السنوات الأخيرة حسم الأمر لصالح من رأى فى منطق نيفاشا ملاذاً للعقل والحكمة بالرغم من فقدان السودان الأن وعقب اكمال الاتفاقية لمرحلتها الأخيرة لما يصل من 600 الى 700 ألف كبلومتر مربع بما يقارب ربع مساحته الجغرافية وما يقارب من ثمانية ملايين من جملة سكانه بجانب الجزء الأكبر من ثروته النفطية المنتجة فعلياً الآن وجزء أيضاً كبير من ثرواته المعدنية والمائية والحيوانية .. وغير ذلك من الموارد والثروات الا أن الغالبية الآن من شعب السودان بدا راضياً عن ما تم يوم السبت الماضى بالرغم من مرارته وحسرته فى النفوس .. والحسرة فى النفوس هنا ليست ترفاً عاطفياً أو ادعاءً وطنياً أجوفاً شعر به الناس عندما تأكد لهم حتمية الانفصال .. الأمر هنا أكبر من ذلك فمعنى الوطن فى النفوس معناً عميقاً متجزراً فى النفس البشرية هكذا وضعه الله فى النفس البشرية والا فلماذ قال سيد الخلق عندما أخرج من مكة ( .. والله ان لم يخرجونى منك ما خرجت .. ) .. أو كما قال صلى الله عليه وسلم .. لم تكن مكة تعنى للنبى الكريم مكاناً مقدساً فقط ولكن كانت تعنى له وطنه الذى نشأ وترعرع فيه .. الأوطان ليست شعراً أو أغنية ولكنها وجدان حقيقى لأ نكاد نعيش دونه أبداً لذلك صدقوا من رأيتموه بيكى من أبناء الجنوب وهو يرتمى فى أحضان أحد اخوته من الشمال مودعاً وصدقوا لمن رأيتموه يبكى من أبناء الشمال وهو يودع أخاً له من أبناء الجنوب فهو هنا لأيودع فقط من عرفه وعاشره بل يودع جزءاً عزيزاً من وطن طالما فاخر بالانتماء اليه .. وأصدقكم القول بأننى لم أشعر بمرارة ما حدث الا فى لحظتين كانتا قاسيتين على بالفعل الأولى تلك اللحظة التى وقع نظرى فيها على خريطة السودان الجديدة عقب الانفصال .. شعرت حينها بأن هنالك من قطع من وجدانى السودانى جزء عزيزاً .. أذكر أننا كنا نتبارى فى مراحلنا الدراسية الأولى فى رسم خريطة السودان بتعرجاتها شبه المستقيمة فى الشمال وانبعاجاتها المنحنية على الغرب ثم حدة خطوطها على الجنوب وتداخل رسمها على الجنوب الشرقى ثم خروجها المتوالى على أقصى الشرق الى بحره الأحمر على الشمال الشرقى .. كنا نفعل ذلك بثقة وفخر كبيرين حتى اذا اذدادت ثقتنا فى رسمها بدأنا نرسمها ونحن مغمضى العينين وعندما يفتح أحدنا عبنيه ليرى نتيجة رسمه يصرخ بجنوب اذا ما أفلح فى رسم خريطة تقارب خريطة الوطن بمثل ما علقت على الذهن وبمثل ما رسمت على الأطلس .. رأيت فى تلك اللحظة تلك الخريطة وقد سرقت منى فسرقت اللحظة دمعة س من مقلتى شعرت بها ساخنة على وجهى فمسحتها وكأنى أواسى نفسى على قدر حتمى شاء الله أن أشهده مع جيلى ليكتب التاريخ أنا قد شهدناه .. أما اللحظة الثانية التى ضغطت على قلبى بقسوة فقد مثلها مشهد طى علم السودان .. لم نتعود أبداً أن نرى هذا العلم يطوى بل عهدناه مرفرفاً على السوارى كما والنسر على الفضاء الفسيح .. ولكنا شهدناه يطوى السبت الماضى ليدس فى حقيبة صغيرة أعدت له .. !! .. لم يكن أبداً يوماً سهلاً على أحد منا مهما ادعى عدم مبالاته أو تأييده لما حدث فالأوطان فى النفوس قدر من أقوى أقدار الله على البشر ..
ولنعد لمناخ الاحتفال الذى حرصت فيه سوزان رايس ممثلة الولايات المتحدة على الظهور بكامل لياقتها الجسدية والعقلية لتهتف فى الجمهور الجنوبى المحتشد فى أول خطابها بكلمة واحدة فى أداء مسرحى شبيه بأداء الرئيس باراك أوباما ( تهانينا ) .. قالتها بانجليزية أمريكية لأ تخلو من الشموخ والرفعة وربما المن الذى قد بصاحبه فى ظن الكثيرين أذىً قريباً .. !! .. كانت المرأة مندفعة بنشوة ظاهرة وجلية حكتها حيويتها وانتقائها لمفرداتها ونسجها لعباراتها ..( .. أنقل لكم هنا تهانى الرئيس باراك أوباما .. لأ بد أن نذكر اليوم هنا أشخاصاً كان لهم الدور الأكبر فيما تحقق اليوم وعلى رأسهم الدكتور الراحل جون قرنق .. نعلم أننا لن نستطيع أن نعيده هو ورفاقه ولكن علينا أن نجعله حاضرا اليوم معنا .. نتطلع الى دولة جديدة تتمتع بالديمقراطية والحرية والحكم الرشيد .. يعلم الجميع بأن دولة جنوب السودان الجديدة ستكون شريكاً قوياً وحقيقياً للولايات المتحدة الأمريكية .. لن تكونوا وحدكم ..) هكذا ختمت رايس حديثها فى الحفل وهو الحديث الذى جاء مباشرة عقب حديث ممثل الصين الشعبية الذى نقل وبهدوء غير مسرحى وفى سرعة تتناسب مع الأداء الصينى المتسارع اليوم تهانى الرئيس الصينى هوجنتاو مؤكداً احترام بلاده لشعب الجنوب صاحب العراقة والحضارة .. وكأن القدر وحده هو ما جعل كلمتى الصين والولايات المتحدة تأتيان وراء بعضهما مباشرة ليحلل المحللون دلالة كلاً منهما .. والدلالة الأقوى هنا لأ تخفى على أحد فكلاً يقول أنا موجود والولايات المتحدة التى كانت غائبة عن المسرح الاقتصادى السودانى برمته تعلن هنا على لسان رايس أنها ستكون حاضرة بقوة على الفضاء والأرض السودانية وكان يمكن لرايس أن تقول ذلك برفق وحكمة الا أن الخطاب الأمريكى بصبغته العنجهية التى صبغه بها بوش الابن أصيح جزءاً أصيلاً من التعبير الأمريكى فى المحافل الدولية .. ورايس تتحدث عن الديمقراطية والحكم الرشيد كمقرر أمريكى يجب أن تأخذ به دولة الجنوب الجديدة .. وبالرغم من أن دورها جاء بعد ممثل الصين الذى انتقى عباراته بعناية خاصة فى جانب احترامه لعراقة شعب الجنوب وحضاراته .. الا أن رايس مضت فيما كتب لها على مجموعة أوراق صفراء اللون كادت حرارة مناخ جوبا أن تحرقها بين يديها .. الغريب أن الأمين العام للجامعة العربية المنتخب حديثاً نبيل العربى سجلاً غياباً مدهشاً وغريباً .. ما هذا الغباء يا دكتور .. ما هذا الغباء الذى يجعلك تغيب فى يوم كهذا .. يوم ينقسم فيه أحد بلدانك العربية الى دولتين وأى بلد يا دكتور انه السودان جار وطنك على الجنوب الذى يشقه شريان حياتك بطوله الى الشمال .. ما هذا الغباء يا دكتور واسرائيل ترقب ما يحدث بكل الاهتمام بل أن علمها رفرف فى جوبا حتى قبل الاعلان الرسمى لتقول الآن نحن على حدود مصر الجنوبية وعلى مجرى النيل .. لو كنت تفهم ما يدور أو كانت لك رغبة لفهم ما يدور لحضرت لجوبا ولو كنت على فراش الموت .. !! وعلى ذكر الجامعة العربية فقد رأيت باقان أموم يحاول جاهداً ايصال ما يحدث وما يقوله ممثلى الدول والكيانات على المنصة للجمهور الجنولى المحتشد .. وتماماً كما فعل قرنق لم يجد غير اللغة العربية لينقل بها ما يدور للجنوبيين المحتفلين وكان واضحاً أن باقان نجح فى ذلك باستخدامه للغة العربية فقد كان التجاوب ضعيفاً وربما منعدماً من عامة الجنوبيين أثناء الكلمات الملقاة حتى اذا ما ترجم باقان ما قيل باللغة العربية وعربى جوبا علا الصراخ والتصفيق والهتاف .. اللغة العربية .. هذه الساحرة لأ يقوى على هزيمتها أحد هكذا قدر الله لمن يكون له تماساً مع هذه اللغة وهى حقيقة حدثنى بها يوماً الجنوبى المثقف الدكتور فرانسيس دينق عندما استضفته فى برنامج ملفات ثقافية الذى كنت أقدمه مع نفر كريم يوماً ما على تلفزيون السودان .. قدم فرانسيس ليلتها اعترافات خطيرة وأمينة أمانة المفكر والمبدع .. قال بأن اللغة العربية آسرة وقوية لأ يصمد أمامها أحد أبداً اذا ما حامت حوله لأنها ببساطة تمتلك ماعوناً ثقافياً ثراً ناطحاً بشذاه وعبقه وقوته .. وقال فرانسيس ليلتها أن السلام الذى تم ما بعد المائدة المستديرة بأديس أبابا لو قدر له الاستمرار والعمر الطويل لعم الاسلام كل الجنوب هكذا بيسر وتلقائية بمثل ما عبرت الآن اللغة العربية .. وهى رسالة خطيرة يرسلها فرانيس دينق ابن دينق مجوك زعيم دينكا نقوك لمن أراد أن يسمع الحكاية على مستوى الفكر والتبصر .. أذكر أن فرانيس قال يومها أنه يقرأ القرأن بنهم وارتياح عندما يكون فى حالة انبساط مزاجى وهوى نفس طيبة حينها أبيت أن أساله ان كان يفكر فى اعتناق الاسلام فمثل هذا الرجل لأيسأل هكذا عن ما يدور فى نفسه وما يعتمل فبها ..
والآن عندما تعتمد الدولة الجديدة العلمانية و اللغة الانجليزية لأ تحارب الاسلام واللغة العربية الا كما تناطح صخر جبل الأماتونج فقد مضى الأمر وعبر والآن بالجنوب ما يزيد عن 18% من المسلمين و17% من المسيحيين و65% بلا ديانة والاسلام لأ ينقص أبداً بل يزيد وهذه سنة الله فى دينه القويم الذى بغزو الآن المدن الأوروبية وأقاصى الأرض .. اليوم بات الاسلام لأ يعترف بالجغرافيا ليبحر أو يشق الصحارى ليصل ويقول كلمته .. ومرحباً دولة جنوب السودان .. ألف مرحب ..


ليست هناك تعليقات: